ظل محمود فى سريره، لن يذاكر؛ فهو لم يعد يهتم بما يحصل عليه من درجات، ولا حتى يهتم بغضب أمه، لا أحد يشعر بألمه لذلك لا يحق لأحد أن يأمره أو يوبخه.
أخذ محمود يسترجع كل ما دار في يومه، كيف أن عليًا أوقعه عند دخوله الفصل وضحك عليه هو وكل زملاؤه. وتذكر عليًا وهو يأخذ كراساته ويمررها بينه وبين زملائه حتى يجري محمود بينهم ليلتقطها، وأخيرًا تذكر عليًا وأصدقاءه وهم يكورون قطع الورق ويرمونها تجاهه حتى خرج محمود عن شعوره وصرخ “هذا يكفي!” وما كان من المعلمة إلا أن وبخته أمام كل الفصل وطردته وحرمته من كل الأنشطة المدرسية وهو من كان المجني عليه وليس الجاني.
استرجع محمود كل ذلك وأخذ يبكي بشدة عازمًا على الانتقام حتى غطّ في نومٍ ليس بعميق، لكنه مضطرب.
ذهب إلى المدرسة في اليوم التالي، جلس في الفصل داعيًا ربه ألا يضايقه علي اليوم لأنه لم يعد يحتمل ولا يعلم ما الذى يمكن أن يصدر منه.
بدأ اليوم الدراسي واستجيبت دعوته حتى جاءت حصة العلوم -حصة معلمته المفضلةـ فما كان من علي إلا أن أفسد صورة محمود أمام المعلمة وأمام زملائه؛ فسكب الماء على بنطاله وظل يضحك قائلًا: “ههههه، انظروا لهذا الطفل، فقد وصل إلى العاشرة ولا يستطيع التحكم فى نفسه”
فقد محمود السيطرة على أعصابه وما كان منه إلا أن أمسك بكرسيه وألقاه على رأس علي الذي أُصيب ونزفت دماؤه. ثم جرى محمود إلى مكتب مديرة المدرسة وحكى لها كل شيء ثم اعتذر عن فعلته وأخبرها أنه لم يكن في وعيه فقد ساقه الشعور بالإهانة لهذا التصرف العنيف دون حكمةٍ منه.
تفهّمت المديرة الوضع وطمأنت محمود أنها لن تعاقبه، لكن أخبرته أن ذلك لا يمنع أنه أخطأ وأنه يجب أن يعتذر لعلي ولوالديه، كما أنها ستطلب من علي أيضًا أن يقدم اعتذاره لمحمود عن كل ما سببه له من أذى.
اتصلت المديرة بوالدة محمود وطلبت منها الحضور وحكت لها كل ما صدر من ابنها. أصابها الذعر والدهشة، فهي لم تصدق أن محمود يمكن أن يكون بهذا العنف. أخبرتها المديرة أن ابنها بالطبع قد أخطأ، لكنه مازال ضحية التنمر الذي ساقه لفعلته تلك.
عزمت والدة محمود على عقابه، وأقسمت أنها ستجعله يندم على فعلته، لكن المديرة ابتسمت وقالت:”لا تتسرعي في الحكم على ابنكِ عزيزتي، كما قلتُ لكِ أنه ضحية، تأذّى كثيرًا من التنمر الذي تعرّض له. واحمدي الله أنه أخبرني بكل شيء حتى نقوم بمواجهة المشكلة وحلها”
“و لكني لا أرى أية مشكلة، هذه تصرفات طفولية ليس أكثر ولا أظن أن لها أثرًا يُذكر، سيكبرون وينسون كل هذا” قالت والدة محمود.
ردت المديرة:”يبدو أنكِ لا تعين حقيقة المشكلة وصعوبتها، دعيني أخبركِ إذًا”
تُظهر الدراسات أن طالبًا من كل خمسة طلاب يعاني من التنمر، وأن 13% منهم يتم إطلاق أسماء مسيئة عليهم أو إهانتهم والسخرية منهم، وأن 12% كان ضحية الإشاعات، 5% هم ضحايا العنف الجسدي كالدفع أو البصق، 5% كان يتم استبعادهم من القيام بالأنشطة المدرسية، وأن الفتيات هم أكثر عرضةً للتنمر ولكن الفتيان أكثر عرضة للتنمر الجسدي، وأن 43% من المتنمر عليهم يقومون بإعلام المدرسة بالأمر، وأن التنمر يجعل 19% يشعرون بالسوء من أنفسهم، ويؤثر بالسلب على علاقات 14% منهم وتدهور صحة حوالي 9%، المخيف في الأمر أن المتنمر عليه تكون لديه ميول انتحارية ب 2.2 مرة أكثر من الشخص الطبيعي وأن محاولات الانتحار تزيد 2.6 مرة لدى المتنمر عليهم.
-لم أكن أعلم أن بعض التصرفات الصبيانية قد تودي بحياة أطفال!
-وها أنتِ قد علمتِ، فهل ستساعديننا إذًا؟
-بالطبع سأفعل، لكن كيف يمكنني ذلك.
-اسمعيني، يمكنكِ فعل الكثير لكن الآن نحن من سيفعل.
سنطلب من كل طالب أن يكتب اسم معلمه المفضل فى ورقة، ونأتي بذلك المعلم ليجتمع بالطالب، يستمع إلى مشكلاته ويساعده فى تخطي أية أزمات، كما يقدم له النصح ويساعده على التخلص من أي مشاعر سلبية تجاه زملائه. وسنطلب من المعلم المفضل لكل طالب أن يتواصل مع المعلم المسئول عن الطالب الآخر في المشكلة ليحلاها سويًا.
كما أنني أمرتُ بتنظيم دوراتٍ وورش عمل لتساعد الطلاب على مواجهة التنمر واختيار التصرف الصحيح عند التعرض له. كما تؤلف من قلب المتنمِّر وتعلمه أن ما يفعله خطأ يجب التوقف عنه.
ولنشجع الطلاب على أن يتآلفوا ويتعاونوا بدون مضايقة بعضهم البعض، فقد اقترحتُ على معلمي المدرسة أن تكون مسرحية هذا العام قصةٌ من تأليف الطلاب وتمثيلهم، ويدور موضوعها حول التنمر وأضراره، حتى يشعر جميع الطلاب بأهمية المشكلة فينفث المتنمَّر عليه طاقته، وينغمس المتنمِّر في عملٍ إصلاحي للمشكلة فيفقد رغبته في التنمر كلما عمل بالمسرحية.
كيفية مواجهة المدارس لظاهرة التنمر؟
ها هي بعض الاستراتيجيات التي اتبعتها بعض المدارس فى العالم و أثبتت نجاحها:
١- محاضرات وورش عمل ضد التنمُّر:
يمكن عمل محاضرات وورش عمل للمعلمين ليتدربوا على التقاط حوادث التنمُّر ومواجهة المشكلة وحسن التصرف وتقديم الدعم لكلٍ من المتنمِّر والمتنمَّر عليه.
كما يمكن عمل ورش لتعليم الطلاب خطورة التنمُّر وما يسببه من أذى، لردع المتنمِّر عن أفعاله وإشعاره بالخطإ دون أن يكون الحوار موجهًا له بشكل شخصي؛ فيشعر بالحرج أو تزداد عدوانيته. وأيضًا تدريب المتنمَّر عليه على مواجهة الموقف بدون الشعور بالذنب فى أن له يدًا فيما يتعرض له أو الشعور بالعدوانية والعنف.
٢- تشغيل فيلم عن التنمُّر يحمل قصة يناقشها الطلاب، يتبادلون الرأى فى فعل المتنمِّر؛ كيف يمكن ردعه وتقويم سلوكه، أو فهم المشكلة التى أودت به لذلك الفعل، ومناقشة حال المتنمَّر عليه؛ كيف كان يجب أن يتصرف، وكيف يمكن أن يحافظ على نفسيته و ثقته بنفسه دون أن تتأثرا.
٣- يناقش أحد المعلمين المتنمَّر عليه ويطلب منه رسم صورة تعبر عن مشاعره، ثم يتم عمل مجموعة من المتنمَّر عليه والمتنمِّر والطلاب الذين شهدوا التنمر و طلاب آخرين. يناقش الجميع تلك المشاعر المعبَّر عنها بالصورة، و يقترحون حلولًا لمواجهة المشكلة. هنا يمكن للمتنمِّر ومن شهد التنمُّر وصَمَت أن يشارك بالحلول دون الشعور بأنه متهم أو فى موقف دفاع عن النفس. كما أن ذلك النشاط سيجمع كل الطلاب فى المجموعة، حتى وإن كان من بينهم من كان يتم استبعاده من باقى الطلاب من قبل.
٤- برنامج دعم الأقران:
هنا يمكن أن يتطوع بعض الطلاب فى المراحل الدراسية الأكبر، و يحصلوا على تدريبات ومحاضرات عن آثار التنمُّر، وكيف يمكن الاهتمام بالطلاب الأصغر الذين يعانون منه. يتم تعريف هؤلاء الطلاب من خلال شريط على الذراع. هذا يُطَمئِن الطلاب الأصغر أن هناك أحدًا من نفس فئتهم العمرية يهتم بالأمر ويتعامل معه بجدية. كما يمكن أن يكونا صديقين؛ فيقلل ذلك من حدة الوحدة التي يعانيها المتنمَّر عليه.
لكن يجب أن يَلقَى هذا الأمر إشرافًا منتظمًا من المعلمين، ويَعلَم هؤلاء الطلاب المتطوعون جيدًا متى وكيف يمكنهم التدخل لحل المشكلة أو اللجوء لأحد معلمي المدرسة.
٥- التأكيد على جميع الطلاب من خلال ورش العمل أو المحاضرات التدريبية أنه يجب على من يشهد حالة التنمُّر أن يبلغ أحد المعلمين ويطلب مساعدته، و طمأنة الطلاب أن من يفعل ذلك لا يكون قد فَتَن على زملائه أو أحدث مشكلة لهم، و إنما يكون فقط يساعد زميله المتنمَّر عليه.
٦- فى بعض الحالات قد يحدث شِجارٌ بين صديقين، ثم ينقلب إلى حالة تنمُّر مستمرة. فى هذه الحالة يجب أن يعي المعلم كيفية التعامل معها، وإن فشل فيمكنه فصل الطالبين عن بعضهما، لكن يجب فى حال نقل أحدهما من الفصل أن يكون المتنمِّر هو المنتقل و ليس العكس. كما أنه من غير المنطقى أن يُحرَم المتنمَّر عليه من النزول فى وقت الراحة لحمايته؛ فهذا يشكل ظلمًا أكبر له.
والنقطة الأهم دومًا هى أن يُعبِّر المعلمون عن اهتمامهم بالمشكلة، وألَّا يُنكِروا وجود تنمُّر بالمدرسة وبين الطلاب بدون التقصي و التأكد.
٧- لمواجهة المتنمِّر بالأمر ومعرفة القصة الحقيقية، يمكن استجواب المتنمِّر ومن يعاونه من الطلاب كلٍ على حدة؛ حتى لا يستطيعوا الاتفاق على قصة مؤلَّفة. يمكن أيضًا أن يُطلَب من المتنمِّر كتابة ما يرى أنه صدر منه، ويكتب كل الأحداث التى جعلته يفعل ذلك وأسماء الطلاب الذين شاهدوا الموقف. يمكن الاستعانة بما كتب فى وقت لاحق على أن يتم حل المشكلة نهائيًا.
٨- يمكن توفير أخصائي في نفسية الأطفال بداخل المدرسة؛ يستمع لكلٍ من المتنمِّر والمتنمَّر عليه، يحل مشكلاتهما ويعيد لهما اتزانهما النفسي؛ هذا لأن المتنمِّر أيضًا يمكن أن يكون ضحية عنف أُسَرى أو فقدان الثقة بالنفس، فيقوم بالتعبير عن ذاته بتلك الطريقة، وأيضًا لمواجهة الأضرار النفسية التي تلحق بالمتنمَّر عليه قبل أن يظهر تأثيرها.
إعداد: منة مدحت
صفحة الفيسبوك | الانستجرام | تويتر | تيليجرام | جوجل نيوز