أستطيع الجزم بحقيقة أنه ما من أحد لم يسبق له أن انزعج فيما يمضغ أحدهم الطعام بصوت مسموع إلى جواره. لكن إذا تخطى الأمر مرحلة الاستياء، وآل بك مثل هذا الصوت إلى أن تفقد صوابك بحيث تصبح قاب قوسين أو أدنى من قتل ذلك المزعج مصدر الصوت أو الانتحار، فقد دق ناقوس الخطر؛ إنك حتما مصاب بالميزوفونيا “Misophonia”.
تُعرف الميزوفونيا أو متلازمة حساسية الصوت الانتقائية بأنها حالة اضطراب عصبي، تسبب الكراهية الشديدة وعدم القدرة على تحمل أصوات متكررة معينة. تنتج هذه الأصوات عن حركات تكرارية غالبا ما يكون مصدرها الفم مثل: صوت مضغ الطعام، وارتشاف الحساء، والصفير، والهمهمة، وقضم الأظافر، أو أصواتا أخرى ناتجة عن خدش سطح ما بآلة حادة، أو النقر المستمر بالأصابع، أو الكتابة على لوحة المفاتيح، أو تقليم الاظافر، أو حتى صرير القلم. تبدأ أعراض الميزوفونيا في الظهور في عمر يتراوح بين التاسعة والثالثة عشر، ويكون أغلب ضحاياها من الإناث.
يكمن خطر الميزوفونيا في أنها تضع حياة مريضها الاجتماعية على المحك؛ فيتجنب تناول الطعام مع أسرته ورفاقه، ويجنح إلى الانفصال ابتعادا عن أي مصدر للصوت قد يفقده صوابه، أو ربما يفر مسرعا عن الصوت المزعج. الأخطر من ذلك أنه قد يضع نهاية لمعاناته فيفتك بذلك الذى أصدر صوتا أزعجه دون وعي منه، أو ربما يدفعه ذلك إلى الانتحار؛ نتيجة لزيادة نشاط الجهاز العصبي السمبثاوي “fight or flight response”، الأمر الذي يجعلها ليست بالشيء الهيّن، وبخاصة أن نسبة المعرّضين للإصابة بها حوالي 20% طبقا لدراسة أُجريت عام 2014.
يقع مريض الميزوفونيا في مأزق، لأن مرضه على الأغلب لا يؤخذ على محمل الجد؛ فعلى الرغم من أن الميزوفونيا قد تم تسجيلها كحالة اضطرابية عام 2000، إلا أن أسبابها لا زال يعتريها بعض الغموض، فضلا عن عدم وجود قاعدة ثابتة تحكمها في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية “DSM-5″، لكنها بالتأكيد لا تتعلق بمشاكل في الأذن وإنما في استجابة المخ لتلك الأصوات، لذا تخدع صحة السمع لدى المريض الأطباء أحيانا فيُخطئون التشخيص، ويخلطون بينها وبين الاضطراب ثنائي القطب أو الوسواس القهري.
توصل فريق من الباحثين بجامعة New Castle بقيادة Dr.Sukhbinder Kumar في دراسة لهم إلى حقيقة مفادها وجود تغيرات في الفص الجبهي “Frontal Lobe” في أمخاخ مرضى الميزوفونيا، وهو المسؤول عن الاستجابة العاطفية للأصوات التي تثير هؤلاء المرضى. وفي تجربة أخرى لهم قارن الباحثون بين الاستجابات العصبية والفسيولوجية لمجموعتين من الأشخاص إحداهما تتكون من 20 متطوعا، اتضح أنهم مرضى بالميزوفونيا، والأخرى مكونة من 22 متطوعًا من الأصحّاء عند تعريضهم لأصوات تكرارية مزعجة “trigger sounds”، وُجد اختلالا في آليات السيطرة على المشاعر، وارتفاعًا في معدل ضربات القلب، مع زيادة في التعرُّق لدى المرضى، كما لوحظ نشاطًا زائدًا ملحوظًا في عدة مناطق في المخ مثل: الفص الجبهي، والمنطقة المعروفة بالـanterior insular cortex، بالإضافة إلى مناطق أخرى مثل: الـamygdala، والـhippocampus، ومنطقة الـventromedial prefrontal cortex التي ازداد فيها سمك “الغلاف النخاعي” myelin sheath الذي يساعد في سرعة توصيل السيالات العصبية.
لسوء الحظ لم يتم التوصل لدواء فعال لعلاج الميزوفونيا إلا أن ثمة وسائل لتخفيف وطأتها مثل: مضادات الاكتئاب، وجلسات العلاج بالأصوات “sound therapy”، يُنصح أيضا بممارسة التمرينات الرياضية بانتظام، وأخذ قسط كاف من النوم، واستخدام سدادات الأذن لحجب تلك الأصوات أو سماعات الأذن للاستماع لموسيقى هادئة تُضادها، مع محاولة الابتعاد عن الأصوات المزعجة قدر الإمكان. على الرغم من عدم وجود علاج قوي يقضي على الميزوفونيا حتى الآن إلا أن النتائج التي توصّل لها الباحثون بجامعة New Castle تُعد خطوة على طريق الأمل من أجل التوصل لحل فعال للتصدي للميزوفونيا.
إعداد: منى أحمد
صفحة الفيسبوك | الانستجرام | تويتر | تيليجرام | جوجل نيوز
غير مسموح بالتعليق حاليا.