إن الفترة التي تقرأ فيها هذا المقال مثالية، فهي للبعض فترة الامتحانات المليئة بالحفظ والمقررات الدراسية، بينما للبعض الآخر فترة الحصول على الإجازة والاستعداد لخطط الصيف. وفي هاتين المرحلتين تحديدًا، ينتابك هذا الشعور المسمى بالملل. ذلك الشعور الذي ربما يخلط البعض بينه وبين علل وأمراض أخرى مثل «الاكتئاب» و«التشاؤم» و«اللامبالاة».
إن الأديب الروسي فيودور دوستويڤسكي قد نبهنا في رواياته، وخاصة رواية «مذكرات قبو» ورواية «الأبله»، أن هذا التقدم الطبي والعلمي والتكنولوچي الذي نعيش فيه، والذي جعل الحياة شبه خالية من المشاكل عما كانت عليه قديمًا، لن يكون بلا مشاكل. بل ستظهر عدة مشاكل أخرى تؤرق الإنسان الذي سيعيش حياته كلها في معاناة، ومن أبرزها: الملل. فما هو الملل، علميًا؟
كان ذلك السؤال محور اهتمام الباحثين في علم الأعصاب الإدراكي، چاميس دانكريت وتيلور أيس في جامعتي وترلوو وتكساس، وقد أجرى هذان الباحثان عدة دراسات ليستنتجا أن الملل يتكون من شقين؛ أحدهما موضوعي وهو شعور بالافتقار إلى الإثارة العصبية، والآخر ذاتي يختلف من شخص لآخر وهو شعور بالسخط. الملل شعور غير مُرضي وغير مريح، وبالتالي فهو يختلف عن حالة اللامبالاة السيكولوچية Apathy والتي يفقد فيها الإنسان الشعور على الإطلاق. كما أنه مختلف عن شعور الاكتئاب، الذي يعاني فيه المرء من فقدان التأثر بأي شيء، فعلى العكس، من يعاني الملل هو في الواقع شخص ينتظر المؤثر المناسب فقط.
من أكثر عرضة للشعور بالملل؟
بعد إجراء الدراسات على البالغين من العمر 22 عامًا والأصغر منهم سنًا في ما قبل العشرينات، وجد أن الأصغر هم الأكثر عرضة للإصابة بالملل. يعلل الباحثون ذلك بتطور القشرة الدماغية الأمامية في الكبار، مما يرتبط بقدرة أكبر على التحكم في النفس. وكانت هذه السمة الرئيسة في المصابين بالملل، حيث إن فقدانهم للتحكم بالنفس كان العامل المشترك.
الجانب المشرق من هذا الطرح هو أننا بإمكاننا التحكم في هذا الشعور والتلاعب به وتغييره؛ عن طريق زيادة قدرتنا على التحكم بالنفس. عليك أن تفكر في هذه القدرة على أنها أشبه بالعضلات التي تحتاج إلى تدريب وممارسة باستمرار لكي تحترفها، لن يكون الأمر سهلًا في البداية ولكنك بعد ذلك ستنال السيطرة. تربط بعض الدراسات هذا الشعور بالملل بزيادة القدرة الإبداعية لدى الشخص حيث إنه يلهمه بالأفكار والأفعال الإبداعية. فمن يدري إذا استخدمت هذا الشعور بشكل صحيح مع بعض التحكم بالنفس، ربما نرى بيتهوڤن أو بيل جيتس مرة أخرى في المستقبل؟
يقول أيس: «إن الشعور بالملل هو الحالة التي تصيب الشخص عندما يشعر أنه حبيس أمر يخلو من القيمة أو المعنى بالنسبة له». بالطبع، فإن الشعور بالملل يعني أنك تستمر في دفع نفسك قدمًا تجاه فعل لم يعد عقلك يريد المزيد منه، لذلك فعليك أن تتوقف وتبحث عن فعل آخر يمدك بالشغف والإثارة، وكأنك تشحن البطارية لتقوم بكل الأفعال الرتيبة الأخرى. أما إذا كنت في فترة الإمتحانات ولابد أن تزيد من معدل جلوسك على الكتاب، فلابد لك أن تتذكر باستمرار ما يضيفه لك فعل الدراسة من معنى وغاية، لكي تقلل من حدة الشعور بالألم.
لازالت الأبحاث مستمرة في هذا الحقل من علم الأعصاب، وليس الأمر أشبه بالزر الذي ستطفئه فيختفي الملل من الحياة تلقائيًا. لا يجد الكثير من الناس في هذه الأوقات مهنة تشبع شغفهم، ويقتلهم الملل والروتين حتى لا يكادون يشعرون بأي متعة في الحياة، فكوننا نعيش تحت ظل النظام الإقتصادي الرأسمالي فلا يوجد لنا أمل في تغير هذا قريبًا. ولكن يمكننا أن نجد متسعًا من الوقت لذواتنا لكي نشبع ظمأ رغبتنا أن نشعر بذواتنا، وربما في هذا المتسع الصغير نصنع المعجزات.
إعداد: محمد إيهاب
صفحة الفيسبوك | الانستجرام | تويتر | تيليجرام | جوجل نيوز