في غرفة مغطاة بالستائر البيضاء
“لست مجنونة يا أمي، أقسمُ لكِ أني لست مجنونة”. ظلت تنوح بتلك الكلمات وما زاد الصراخ نوباتها إلا جنونًا.
كان الدم لا يزال يتساقط من أذنها بعد أن غرست فيها أداة حديدية لعلها تخرس هذا الألم الذي يعتريها، بينما التف حولها حشدٌ من الأطباء مفزوعين من منظر هذه الأداة التي لا تزال عالقة، إلى أن وصل كبيرُ أطباءِ المخ والأعصاب وبدأ باستجواب والدها الذي وقف محتضنًا أمها وقد أعياها البكاء. قال الوالد شارحًا له “هذه الحالة تأتيها عندما تسمع صوتًا عاليًا فجأة ثم تبدأ في هذه النوبات الجنونية؛ لذا اضطررت لحجزها في البيت لتفادي كثير من النوبات التي تسببها أصوات السيارات وغيرها، ولكن بعد أن قمتُ بعرضها على كثير من الأطباء أجمعوا على أنه فصامٌ في الشخصية، ولكنَّ أبي أيضا كان يعاني من ذلك إلى أن مات!”. وهنا جاء صوتها قاطعًا لهم يتوسل الطبيب “أرجوك أنقذني، أخبرهم أني لست مجنونة”.
استكمل الطبيب “لا أعتقد أنه فصامٌ ولا هذا أيضًا بتوحد، هناك شيءٌ في الأمر”. وكان قد انتابته الحيرة، فأمر بإجراء أشعة مقطعية على مخها لمعرفة ما إذا كان قد أصابه شيء، ولكن بعد فحص الأشعة وجد أنها طبيعية جدًا مما زاده حيرة. وهنا دخلت الطبيبة المعجزة؛ وكان هذا لقبها لمهارتها في حل ألغاز كثير من الحالات، لذا أخذ الطبيب يقص عليها الأمر. بدأتْ تُحملق في الفراغ لبعض الدقائق ثم توقفت فجاة “ذكرتم أن النوبة تأتيها عند سماع صوتٍ عالٍ؟”. رد أحدهم “نعم”.
أغلقتْ عينيها لتجمع شتات تركيزها وتذكرتْ، ثم فتحتهما فجأة ولكن قد بدا بريق النصر فيهما “إنها متلازمة الصدمات الصوتية (acoustic shock)”.
بعد سماع عبارات المدح المعتادة بدأت الطبيبة بشرح الحالة للوالدين.
“بداخل الأذن الوسطى توجد بعض العظيمات التي تتمفصل مع بعضها، ومثبتة من الخارج بطبلة الأذن ومن الداخل بالغشاء المغطي للـ oval window (وهي الفتحة المنفذة إلى الأذن الداخلية). هذه العظيمات تقوم بنقل الذبذبات الصوتية من طبلة الأذن إلى الـ oval window ومنها إلى الأذن الداخلية ليتم ترجمتها على هيئة إشارات كهربية والتي ترسلها إلى المخ ليتم سماعها. ولكن هذه العظيمات لا تظل حرة الحركة دائمًا؛ حيث يتحكم فيها عضلتان، وإحداهما والتي تهمنا هنا هي tensor tympani، وهذه العضلة تحمي الأذن في حالة الأصوات العالية. فعند الدخول إلى قاعة أفراح تشعر بأن الطبل وهذه الأصوات العالية تدق داخل عقلك، ولكن بعد فترة من الوقت تخف تلك الضربات ويرجع الفضل هنا لهذه العضلة التي تتدخل في الوقت المناسب وتحد من حركة هذه العظيمات التي راحت ترقص على أصوات الطبول. ولكن بسبب صدمة معينة أو الاستخدام المستمر لسماعات الأذن تحدث هذه المتلازمة؛ وهي عبارة عن رد فعل لا إرادي من المخ، حيث يقل الحد الأدنى لإثارة هذه العضلة threshold وتزداد حساسيتها، فتبدأ الـ tensor tympani بالانقباض والانبساط لا إراديًا عند التعرض لصوتٍ ما فجأة آخذةً معها طبلة الأذن جِيئةً و ذهابًا بنفس التردد؛ الأمر المسمى tympanic flutter، كما تؤدي إلى تهيج في العصب الخامس (trigeminal nerve)، وهو العصب المغذي لها والذي يولد ألمًا عصبيًا رهيبًا قد يشبه الطعنة في الأذن، وأعراضًا سيكولوجية وفسيولوجية كالدوار وطنين الأذن والخَدَر (أو التنميل) والتى تظهر في تلك النوبات، وفي حال استمرار هذه الأعراض قد يسوء الأمر وصولًا إلى القلق، واضطرابات ما بعد الصدمة PTSD وحتى الاكتئاب.
“تعني أن ابنتي ليست مجنونة؟!”
قالتها الأم وقد كادت عيناها تضيء من الفرح!
قد يكون الطبيب هو مصدر الأمل الوحيد لأحدهم، ربما كلمة “نادر” تجعله يغفل عمَّا يقرؤه، ولكن الطب هو حياةٌ بالفعل. وربما هذا السطر الذي غفل عنه كان الحل الوحيد للغز. فإن أردت أن تلحق بهذه المهنة فعليك أﻻ تستهين بأي معلومة.
إعداد: سمر كرم
صفحة الفيسبوك | الانستجرام | تويتر | تيليجرام | جوجل نيوز