اجتمع الطبيب المتقاعد رفعت إبراهيم بأحفاده في ميعادهم الأسبوعي المعتاد يوم الجمعة، التفوا حوله ليلًا؛ ليحكي لهم قصصه الرديئة —بعدما أحالوا حياته جحيمًا طوال اليوم وحوّلوا منزله إلى مرعى للخنازير البرية— لكنه مازال يحبهم أكثر من أولاده.
اليوم يا أولادي سأحدّثكم عن الشينيجامي، تساقطت أفواه بعضهم غير مستوعبين الكلمة، بينما أطلق الحفيد الأكبر نكتة رخيصة على هذا المصطلح الغريب ثم انطلق في ضحك هستيري قبل أن تسكته ذبابة دخلت في فمه. أكمل الجد كلامه بصوته المليء بعَبَق السنين:
“الشينيجامي” —في الثقافة البوذية اليابانية— هو مصطلح يُطلق على حاصد الأرواح أو من يقود البشر نحو الموت والهلاك، أي ما يعادل “مَلَك الموت” في ثقافتنا، لكن في بدايات القرن العشرين، اكتشف العلماء أنه لم يعد هذا الأمر مقتصرًا على “الشينيجامي” فقط. فلنهدئ الإضاءة قليلًا الآن ونحضر المكسّرات؛ لنستمع إلى قصة حاصدي الأرواح من بدايتها. وضع الجد كشافًا تحت لحيته البيضاء ليبدو مخيفًا ثم أكمل:
أثناء عملي بإحدى المستشفيات باليابان عام 1994، انتشر في الصحف المحلية خبر عن أحد أعضاء عصابات الياكوزا الذي نقل ڤيروس الأيدز(HIV) إلى 18 من زملائه عن طريق حُقن المخدرات الملوثة، وصفه محررو الصحف آنذاك بـ”الشينيجامي”.
قديما ساد الاعتقاد أن المسؤولين عن انتشار الأوبئة والأمراض هم المرضى فقط أو الذين تظهر عليهم الأعراض، فكانت الإجراءات تتم لحماية المجتمع من أخطارها، قد يصل الأمر إلى حجزهم تحت الحجر الصحي “Quarantine” حتى يتم شفائهم ومن ثَم يطلق سراحهم.
في عام 1906 قَدِمَت الآيرلندية Mary Mallon للعمل لدى أحد أثرياء نيويورك، فقط ليكتشف صاحب المنزل Charles Henry Warren أن 6 من أصل 11 فرد ممن يقطنون منزله قد أصابهم مرض التيفويد (في وقتها وصلت نسبة الوفيات بسبب هذا المرض إلى 20% ولم يتوفر له علاج). عَينَت العائلة الثرية المهندس الصحي George Sober للتحقيق في هذا الأمر، لمعرفة مصدر الوباء، وانتهى به الأمر إلى إعلان اكتشافه لـ”حامل المرض الصحي” أو “Healthy disease carrier” في ورقة بحثية نشرها عام 1907.
بدأ التحقيق مع جميع المتواجدين بالمنزل حتى استقر على ملاحقة الطباخة Mary Mallon وتتبعها، ليكتشف أنها قد عملت لدى 8 عائلات قبل قدومها، وعلم أن 7 أفراد منهم أصيبوا بمرض التيفويد.
في البدء لم يكن الأمر منطقيًا؛ فَماري لم تكن تعاني من أي أعراض خطيرة للمرض، لهذا رفضت التعاون مع السلطات بعد اتهامها بأنها السبب في نشر الوباء، إلا أنه تم القبض عليها وحجزها، وتم التحقق من وجود بكتيريا الـSalmonella المسببة للمرض في 120 من أصل 163 عينة براز.
من المعروف أن بكتيريا الـSalmonella تعيش بشكل شبه أساسي في المرارة، لذلك عرضوا عليها آنذاك أن يقوموا بإزالتها، إلا أنها رفضت بعناد شديد؛ لم تكن ماري مؤمنة للحظة أنها قد تكون السبب في نشر الوباء.
في عام 1910 أطلق سراحها مفوض وزارة الصحة الجديد تعاطفًا معها، واشترط عليها إيجاد عمل مناسب لها غير الطبخ، تحسبًا لأي شيء.
لم تخضع ماري لهذه النصائح، وانطلقت لتعمل من جديد بالطبخ، هذه المرة في مستشفى Sloane للنساء في مانهاتن، أصابت 25 شخصًا بالتيفويد، أطباء وممرضين وعمال، تُوفي منهم اثنان.
بعد ذلك وقعت ماري فريسة للسخرية من قِبَل المجتمع، تناولتها الجرائد ورسامي الكاريكاتير، منذئذ وماري عرفت للعالم باسم “ماري التيفويد” أو “Typhoid Mary” لنجدها قد شقَّت طريقها للشهرة ووَضعت اسمها في كل القواميس الطبية كمثال نموذجي لحامل المرض غير المصاب “Healthy Carrier”.
وقعت ماري ضحية لرعونتها وتعسُّف الأطباء الذين لم يفكروا في شرح الموضوع لها ببساطة، وانهمكوا في تحليلاتهم لسنوات وسنوات. تُوفيت “ماري التيفويد” عام 1938 مُخلِّفة وراءها 122 مصابًا بالتيفويد، خمسة منهم قد ماتوا.
سَلَّطَت قضية ماري مالون الضوء على قضية “حاملي المرض” ودورهم في انتشار الأوبئة وبقاء أمراض كثيرة في المجتمع بالرغم من وجود علاجات فعالة لها، مثل بكتيريا الزُحار العصوي”bacillary dysentery”، وبكتيريا الأميبا”entamoeba histolytica”، ومرض الخُناق “diphtheria bacillus”، ومرض الكوليرا “cholera”، و فيروس شلل الأطفال”anterior poliomyelitis virus”.
من المعروف أن أجسامنا تحتوي على الكثير من الطفيليات المسبِبَة للأمراض”commensal parasites” والتي قد لا تُظهر أية أعراض، بل تنتظر الفرصة المُواتية لها حتى تصيبنا بالأمراض (مثل: نقص المناعة). إنّ الجلد —على سبيل المثال— يحوي على سطحه بكتيريا staphylococcus aureus و streptococcus pyogenes المسؤولة عن تلوث الجروح والتي تسبب عريضة طويلة من الأمراض المعروفة، إلا أنّ حامل هذه البكتيريا قد لا يعلم بها وقد لا يصاب بها نفسه، لكن قد يصيب بها العديد من الناس.
أعلنت الأم أن وقت رحيل أبنائها قد حان، ودّع الجد أحفاده ورمق حفيده الأكبر بنظرة تَشَفِّي طفولية؛ فهو مازال يسعل محاولا إخراج الذبابة من حلقه، ثم ضحك بنفس طريقته، من الجلي أن هذا الجد مازال يحتفظ بنصيب الأسد من تفاهته عندما كان شابًا.
إعداد: محمود أحمد العدل
صفحة الفيسبوك | الانستجرام | تويتر | تيليجرام | جوجل نيوز