إذا كنت ممن يتساءلون دومًا حول ماهية أنفسهم فهذا المقال قد يسبب لك أزمة وجودية من نوع ما، على كل حال ماذا يجعلك أنت؟ وماذا يجعل كل منا نفسه –شخصًا فريدًا عن غيره-؟ اختلفت الآراء الفلسفية حول ذلك فمنهم من يرى أن الإنسان عقل وجسد ومنهم من يدّعي أنّ الإنسان مجرد جسد وأي شيء آخر يُنسب إلى ماهيته البدنية، ولكن لنترك الحيرة التي يضعنا فيها الجدل الفلسفي وننتقل إلى حيرة من نوع آخر تسببت بها إحدى الحالات الطبية، والتي تعرف بـ “Split-Brain Patients”، والتي أيضًا كانت بمثابة نعمة في مجال علم الأعصاب “Neuroscience”.
من المعروف أن المخ يتكون من نصفين وكل نصف يتحكم في عضلات النصف المقابل من الجسد؛ فالنصف الأيمن من المخ يتحكّم في النصف الأيسر من الجسد والعكس صحيح، وكل منهم أيضًا مسؤول عن مجموعة معينة من الوظائف. يتصل نصفا المخ ببعضهما عن طريق شبكة من الوصلات العصبية الكثيفة المعروفة بالـجسم الثفني “Corpus Callosum”، والتي من خلالها ينتقل سيل من الإشارات العصبية والمعلومات بين نصفي الدماغ وهذا الذي يُمكّننا من القيام بأنشطة حياتنا اليومية دون أي صعوبة تذكر.
الآن تخيل نفسك في الصباح أمام خزانة ملابسك وقد قررت بالفعل ماذا سترتدي فتحاول الوصول إليه بيدك اليمنى فتعترض يدك اليسرى وكأن كلتا يديك على خلاف أو في صراع وكل منهم يريد شيئًا مختلفًا تمامًا، وينتهي بك المطاف مرتديًا الكثير من الملابس ثم تقوم بخلعها وتبدأ من جديد. أو أنّك تقوم بالتسوق فتصل إلى ذلك الشيء بإحدى يديك لتضعه في عربة التسوق الخاصة بك؛ فتعترض يدك الأخرى وتُمضي ساعات حتى تتمكن من إنهاء التسوق.. جنون، أليس كذلك؟! ولكن هذا هو ما حدث بالفعل وروته سيدة تدعى “Vicki” بعد خضوعها لعملية جراحية خطيرة تم فيها فصل نصفي المخ عن بعضهما تمامًا عن طريق قطع الألياف العصبية التي تربطهما ببعض في عملية عرفت ب “Corpus Callosotomy” والتي استغرقت 10 ساعات.
كان طبيب ڤيكي قد اقترح عليها العملية لتضع حدًا لمعاناتها مع الصرع، والتي فشلت الوسائل الأخرى آنذاك في علاجه وذلك عن طريق منع الإشارات العصبية من الانتقال إلى النصف الآخر من المخ، وبالفعل تحسنت ڤيكي وكان الضرر الناتج عن العملية بالنسبة لها شيئًا لا يذكر بجانب معاناتها مع الصرع سابقًا، كما أن هذه الأعراض بدأت تقل بعد مرور عام و بدأت ڤيكي بالتأقلم تدريجيًا.
كانت هي من ضمن 10 حالات أو أقل خضعوا لهذه العملية آنذاك وأُجريت عليهم العديد من التجارب مما مكّن علماء الأعصاب من التعرّف أكثر على نصفي المخ، وأنّ كلًا منهم قد يكون مستقلًا بذاته مما يجعلك تحمل بداخلك مُخَّين وليس واحدًا وكذلك التعرف على وظائف كل نصف؛ فمثلًا النصف الأيسر هو المسؤول عن اللغة والتحدث بشكل أساسي وكذلك العمليات الحسابية والمنطقية واسترجاع المعلومات من الذاكرة بينما النصف الأيمن مسؤول عن القدرات المكانية كالتعرف على الوجوه وفهم المستقبلات البصرية التصويرية ومعالجة الموسيقى. وهذا ما دفع الناس لاحقًا إلى تصنيف أنفسهم فمن يرى نفسه أكثر نبوغًا فيما يتعلق بالرياضيات يدّعي كونه “left brained”، ومن يرى نفسه أكثر نبوغا في الجانب الإبداعي يدعي كونه “right brained” وهو ما أجده طريفًا الحقيقة.
ومن التجارب المثيرة التي أجريت على “split-brain patients” كانت عَرْض مجموعة من الصور أو المؤثرات البصرية في مجال الرؤية الأيمن أو الأيسر على حسب نصف المخ المرغوب جمع معلومات عنه -لا ننسى أن مجال الرؤية الأيمن يتم استقباله و معالجته بالنصف الأيسر من المخ والعكس- وقد طُلب من المريض ضغط زرٍ ما عند رؤيته للمؤثر؛ فوُجِد أنه عند وضع المؤثر في مجال النصف الأيسر من المخ قام المريض بضغط الزر وإخبارهم أنه بالفعل رأى شيئًا ما، بينما عندما وضع المؤثر في مجال النصف الأيمن من المخ قال أنه لم يرى أي شيء على الرغم أن يده اليسرى تضغط الزر.
التفسير هو أن كل نصف لا يعلم ما يقوم به الآخر وبما أن النصف الأيسر من المخ هو المسؤول عن المعالجة الكلامية كانت إجابة المريض مطابقة لضغطه على الزر بينما النصف الأيمن لا يستطيع التكلم ولا يستطيع التواصل مع النصف الأيسر ليخبره بما رآه فكانت إجابته غير مطابقة لضغطه للزر والمدهش أكثر أنه يستطيع رسم ما رآه!
هذه التجربة أجريت بواسطة “Michael Gazzaniga” أحد علماء الأعصاب بجامعة كاليفورنيا والذي قام بدراسة مرضى الـ”split-brain” لمدة خمسين عامًا، وكانت بمثابة اكتشاف لوجود هذا الانقسام الغير متوقع بين نصفي المخ.
فسيولوجيًا هذا الأختلاف بين نصفي المخ هو ما يجعل كل منهم يقوم بوظائفه بتخصص شديد ودقة مطلقة، وكذلك لضمان الفصل بين هذه الوظائف وبعضها.. على الرغم من ذلك فالقيام بأي وظيفة أكثر تعقيدًا من مجرد الجزم بأن النصف الأيمن هو من قام بذلك أو النصف الأيسر.
في النهاية عليَ أن أعترف أن ادّعاء “أزمة وجودية” في البداية كان مُبالغ فيه قليلًا ولكن كان مُغريًا جدًا افتراض ذلك… والآن، أيهما حقًا أنت؟
إعداد: بسمة عباس
صفحة الفيسبوك | الانستجرام | تويتر | تيليجرام | جوجل نيوز