بعد ضجيج وعويل كان يملأ الأجواء، وكثير من المصابين كاد أن يفتك بهم الداء، عم الصمت في المكان إذ يقول الطبيب أن المصابين في الحادثة قد فقدوا كميات من الدماء وهم بحاجة إلى من ينقل إليهم بديلًا عن المفقود، فجاء أبناء المصاب يتصارعون وقد أخذتهم العاطفة أيهم يعطيه من دمه أولًا، وانتهى الأمر أن مات الوالد من النقل الغير متوافق للدم بدلًا من أن يموت بالنزيف، فما هي القصة وراء ذلك؟ أو بعبارة أخرى، لماذا نمتلك فصائل دم مختلفة؟
في الواقع، قد قامت هذه الحادثة التي قرأتها منذ قليل في العصور الوسطى حيث كان التخلف سائدًا، فقبل أن يكتشف الطبيب الأسترالي كارل لاندستنير فصائل الدم المعروفة حاليًا عام ١٩٠٠ ويحصل على جائزة نوبل عنها بعد ذلك بثلاثين عامًا كان هناك الكثير من الوفيات التي حدثت بسبب أخطاء نقل الدم على يد الأطباء في العصور الوسطى، فقد ظن الأطباء آنذاك أن نقل الدم سيكون شفاءً لعدد من الأمراض من بينها الجنون! وبدأوا بالفعل بنقل الدم لاختبار نجاح ذلك بداية من عام ١٦٠٠ ، فكانت النتيجة أن أُصيب المريض بخفقان القلب والتعرق والقيء الشديدين وانتهى الأمر بالوفاة، فما السبب في ذلك؟
اكتسب نقل الدماء سمعة سيئة منذ ذلك الحين، حتى جاء الطبيب الإنجليزي جاميس بلندل وأعاد الكرة بعد أن رأي الكثير من السيدات تلقين حتفهن أثناء الولادة من النزيف، وبدافع من الرغبة في إنقاذهن قام بتجربة أخرى على رجل كاد يتوفى من النزيف بنقل الدم إليه فتحسن، مما عزز فكرة أن عملية النقل قد تكون مفيدة، إلا أن الرجل قد مات بعدها بيومين، فكان ذلك مؤشرًا على حلقة مفقودة لابد من إيجادها. قام بعد ذلك بعشر عمليات قد نجى أربع منها فقط، وهذا يؤكد وجود عامل ما يحكم نجاح النقل، فليس أن يكون دمًا بشريًا فقط هو العامل، بل لا يصلح النقل للإنسان إلا من مجموعة معينة من البشر.
قد يبدر إلى ذهنك الآن تعجب من مدى سذاجة هؤلاء فلماذا لم يتم إجراء هذه الاختبارات خارج جسم الإنسان أولًا قبل أن يتوفى هذا العدد من البشر بسبب هذه الأخطاء؟ وهذا ما فعله الأطباء قبل اكتشاف فصائل الدم بفترة وجيزة، بدمج دماء المرضى في أنابيب الاختبار؛ فلاحظوا تجمعها وتجلطها مع بعضها فاعتقدوا أن ذلك سبب الوفيات، ولكونهم مرضى؛ لم يفكر أحد أن تكون هذه الجلطات من فسيولوچية الجسم إلى أن جاء لاندستنير واكتشف ذلك بعد دمج دماء بعض الأصحاء، حيث أطلق على مجموعة منهم A وأخرى B, C فتحورت C لتصبح فصيلة الدم المعروفة O، ثم جاء اكتشاف عامل رايسس وفصيلة AB بعد ذلك.
لماذا نمتلك فصائل دم مختلفة؟
ولماذا هنا أداة استفهام نسأل بها في زمنين، أحدهما في الماضي عن السبب، والآخر في المستقبل عن الغاية أو الهدف من ذلك، السبب هو وجود بروتينات معينة تسمى مولدات الأجسام المضادة Antigens على سطح كرات الدم الحمراء يحدد شكلها نوع فصيلة الدم، فالأمر أشبه بأرضيات المنزل طبقة منه تسمى بروتين H Antigen والأخرى A Antigen إذا كنا بصدد الحديث عن الفصيلة A وفي الفصيلة B يحدث تغيير في شكل ذلك البروتين، أما O فهي اكتفت بالمرحلة الأولى فقط والتي تسمى H Antigen دون غيرها، وذلك كما يتضح يتم تحديده بالچينات عن طريق چين ABO Gene. فعندما يتم نقل دماء غير متوافقة الفصيلة يعتبر الجهاز المناعي هذا الدم المنقول من الأجسام الغريبة في هاجمها مسببًا هذه الجلطات، مما قد يؤدي بحياة المريض للخطر. في عام ١٩٩٦ افترض الطبيب بيتر دأدامو أن هذه الفصائل تطورت عبر آلاف السنين تبعًا لنوعية الغذاء التي يتناولها الشخص، فالنباتيون لهم فصيلة A و فصيلة B ظهرت بعد ذلك في جبال الهيمالايا وأخيرًا الفصيلة الأحدث AB ووفقا لذلك فقد ألف كتابًا باع أكثر من ٧ ملايين من النسخ ناصحًا البشر بوجبات معينة من الغذاء تبعًا لفصيلتهم، ولكن كما تتوقع فإن هذه الفرضية لم تصمد طويلًا أمام التجريب.
الشيمبانزي الكائن الأقرب لنا تطوريًا يحتوي على فصائل A & B بينما يحتوي الغوريلا على فصيلة B فقط ونحن نحتوي على ٤ فصائل كما ذكرنا بعد العديد من الطفرات التي نشأت في الچين المسمى ABO Gene في محتوى البشر الچيني وهذا يدل على أننا ورثنا هذه الفصائل منذ أمد تطوري بعيد، يعتقد العلماء وجود رابط بين هذه الفصائل وحدوث بعض الأمراض، فإذا كان الشخص من الفصيلة A فهو عرضة لبعض السرطانات.
أما إذا كان O فهو عرضة لحدوث بعض التقرحات أو تمزق وتر أكيلس، والسبب مازال غامضًا، البعض يرى أن حاملي الفصيلة O هم أكثر مقاومة لمرض الملاريا حيث يسهل على جهازهم المناعي التعرف على الطفيل بسهولة نسبية والقضاء عليه. هذا كما وُجِد أن هذه الفصائل قد تكون حماية من بعض الأمراض حتى خارج الدم، اعتمادًا على الحقيقة القائلة بأن مولدات الأجسام المضادة ABO antigens تتواجد على خلايا أخرى بخلاف خلايا الدم، كمثال ذلك الإصابة بڤيروس “نوروڤيرس” Norovirus الذي يصيب الأمعاء مسببًا قيء وإسهال عن طريق الامساك بخلايا الأمعاء والدخول إليها، ويقوم بذلك بمساعدة تلك المولدات Antigen تبعًا لنوعها فيصبح بذلك معديًا لبعض الناس دون غيرهم. كان أسلافنا يعيشون في مستنقع من المعديات فلابد أنها قضت على الأسلاف الملائمة والشائعة في تلك الفترة ونجى منهم الغرباء المقاومون لتلك الأمراض، منتجين فصائل الدم التي نراها في يومنا الحالي.
بالطبع، هذه ليست النهاية فمن المثير للدهشة أننا لم نكتشف غاية وجودها بعد اكتشافها بزهاء قرن، فتلك لا تزال مجرد فرضيات، فلا تندهش إذا أخبرتك أنه تم اكتشاف مجموعة من البشر في عام ١٩٥٢ لا تحتوي أي فصيلة من المذكورة على الإطلاق ولا تحتوي حتى H Antigen سميت بنوعية بومباي Bombay phenotype؛ وهذا يستبعد قليلًا أن تؤثر هذه الفصائل في صحة الإنسان. سيظل هذا الاكتشاف من الاكتشافات الثورية في الطب والتي انقذت حياة العديد من البشر رغم عدم فهمنا لماهيته بشكل كامل كغيره من الأشياء التي مازلنا نجهل عنها الكثير.
إعداد: محمد إيهاب
صفحة الفيسبوك | الانستجرام | تويتر | تيليجرام | جوجل نيوز