ما الذي يدور في عقلك حينما تكون على وشك المشاركة في حدثٍ اجتماعيٍ مهمٍ ما؟ علمًا بأنه في عرفنا -نحن من يعانون من القلق الاجتماعيّ- كل الأحداث الاجتماعية تقريبًا مهمة بدرجة تتناسب طرديًا مع عدد الأفراد المتواجدين بالموقف ومع مساحة الدور الذي يُتوَقّع منا أن نلعبه فيه.
هل تبدأ في وضع السيناريوهات المفصلة المحتملة لما يمكن أن يحدث؟ وتُمعن في التجهيز والاستعداد لأفضل التصرفات الممكنة في كلٍ منها؟ لو كان هذا ما تفعله لما كان هذا حالك! أنت تفعل هذا -ربما- بعد مرور الموقف -في مرحلة جلد الذات- حينما تعيد تَخيُّل الموقف بأكمله، مركزًا على كل الجرائم السلوكية التي ارتكبتها في حق تاريخ التواصل البشريّ، كان يجب عليّ أن أفعل كذا وكذا!
أما فيما قبل الحدث فأنت تفعل شيئًا تتصوره تخيُّلًا لما يمكن أن يحدث وهو بعيد كل البعد عما يمكن أن يحدث فعلًا. تقضي ذلك الوقت متأمّلًا كم سيكون الموقف مخيفًا ومرعبًا ومؤلمًا ومُخزيًا وما إلى ذلك. هكذا بلا أي تفصيل، كأنك سوف تواجه وحشًا مفترسًا غير واضح المعالم بالنسبة إليك. على المستوى اللغويّ يُعتبر هذا تشبيهًا، ولكنه على المستوى الفسيولوجيّ هو ما يحدث داخلك بالضبط.
إلى أن تصبح في قلب الحدث ستلاحظ دقات قلبك وهي تتسارع وتتزايد في القوة، تلاحظ نفس الشيء يحدث إلى تنفسك، تحاول أن تبتلع ريقَك في توترٍ فلا تجد ريقًا لتبتلعه، لماذا أصبح فمك جافًا هكذا؟ أين ذهب ريقُك؟! أنت تتجمد!
إنها “استجابة الخوف” fear response، التي نشّطت فرعًا من فروع جهازك العصبيّ وهو Sympathetic nervous system الذي ينشط في حالات الطوارئ، كنا نعرف أن ذلك يسمّى fight or flight response واتضح فيما بعد أنه يُسمّى fight, flight or freeze response.
هناك احتمال ثالث؛ حينما تكون فرصتك الأفضل في استخدام العنف ستستخدمه، وحينما يكون الأمل في الهروب ستهرب، وحينما لا يكون هناك أيّ أمل، ستتجمد.
تنزوي في أقل أرجاء المكان تعرضًا للضوء، تنطوي على نفسك، تنظر إلى الأرض، تحاول أن تختفي، لن تريد مواجهة ذلك الكابوس الذي يسمى الآخرين. يأخذك تفكيرك إلى ما يفكرون فيه، إنهم الآن يقيمونك، يحكمون عليك، يفكرون كم أنت مثير للشفقة –هذا طبعًا ما تعتقد أنت أنهم يفكرون فيه- والحقيقة أنهم لا يكادون يعيرونك انتباهًا، وهذا ما يسميه علماء النفس “تأثير بقعة الضوء” Spotlight Effect؛ إننا نميل إلى المبالغة في تقدير ما يلحظه الناس فينا، في مظهرنا وفي سلوكياتنا، بسبب مركب من وعي زائد بالذات –وهو ما يمكن أن يكون صفة مفيدة جدًا في بعض الأحيان الأخرى- إضافةً إلى عدم قدرتنا على الفصل بين ما يراه الآخرون فينا وبين ما يدور في عقولنا ولا سبيل لهم إليه.
المهم أنك الآن تعتقد أنك لو رفعت بصرك فلن تجد سوى نظرات السخرية والازدراء في عيون الآخرين موجهة إليك، بالطبع هذا آخر مشهد ستود أن تنظر إليه. ولكن ماذا لو كان النظر إليه هو أول شيء تحتاجه؟
هناك قصة تحدث عنها Joseph Campbell يرى أنها أفضل تلخيص للتجربة الإنسانيّة، تدور حول الملك “آرثر” ومجموعة من الفرسان معه، تظهر لهم (الكأس المقدسة) –ولا يهمنا الآن ما هي تلك الكأس المقدسة، المهم أنها شيء في غاية الأهمية- ثم تختفي، وينطلقون في مهمة للبحث عنها، وفي غابة مظلمة وصلوا إليها، يقررون أنهم لا بد أن يتفرقوا، لابد لكل فارس أن يبحث عنها وحده، أين سيبحث كل منهم؟ قرروا أن كلًا منهم سيتوجه إلى البقعة الأكثر إظلامًا وإثارةً للخوف في عينيه. قد يبدو أنه لو كان هناك أيُّ منطق من وراء تلك القصة لكان الأجدر بكل منهم أن يبحث في المكان الذي سيرى فيه بوضوح، أو أن يبدأ به على الأقل، هذا ما سيضمن أفضل نتيجة ممكنة للبحث، ولكن الشاهد كان أن أكثر شيء تحتاج إليه سيكون موجودًا في آخر مكان تودّ أن تبحث عنه فيه.
عندما تنظر إلى ذلك المشهد، عندما تنقل –تدريجيًا- انتباهك وتركيزك إلى من حولك بدلًا مما بداخلك؛ تراقب تعبيراتهم وتصرفاتهم وتنفعل بها وتتفاعل معها، ستكتشف أن ذلك هو كل ما تحتاجه فعلًا، أن تنتبه إلى ما يحدث من حولك وتطلق العنان لردود فعلك التلقائية العفوية لتتولّى زمام الأمور، ستكتشف أن هذا هو بالضبط ما يفعله هؤلاء الأشخاص، المريعون المرعبون، الذين يحصلون على كل شيء وتُفتَح لهم جميع الأبواب، “الاجتماعيين”.
ليس هذا طريقًا سهلًا بالطبع؛ “المشوار صعب وطويل (وبيمتحن الروح)” –للمزيد راجع أغنية (تاكسي) (مشروع ليلى)- ولكنه هو الطريق.
عدد من الأبحاث والدراسات أقيم حول هذه الطريقة في علاج القلق الاجتماعيّ، والتي تسمى في الأوساط الأكاديمية حتى الآن self-focused attention and safety behaviours experiment لا أدري لماذا! ربما لأنهم عجزوا عن إيجاد تسمية أسوأ من هذه. بعض الأبحاث يقترح أنها أفضل من العلاج الدوائي SSRIs، بل وأفضل من مجرد التعرض التدريجيّ للمواقف الاجتماعية،
Exposure Therapy؛ الذي يتربع حاليًا على عرش قائمة الأساليب العلاجية في حالات القلق أو الرهاب الاجتماعيّ. خصوصًا عندما تم تعزيزه في إحدى الدراسات بأن طُلب من مجموعة من المشاركين تقديم العون والمساعدة لغيرهم كلما أتيحت لهم الفرصة Kindness Training.
في النهاية لا يسعني إلا أن أوصيك بأن تنتبه، لأن هناك بشر يقتربون منك.
إعداد: محمود سامي
صفحة الفيسبوك | الانستجرام | تويتر | تيليجرام | جوجل نيوز