في القديم، كانت هناك معركة دائرة بيننا نحن —معشر البشر— وكائنات أخرى متناهية الدقة تُسمى “البكتيريا”. لا تستغرب القول حين أخبرك أنّ هذه الجولة الأولى أو الحرب البيولوچية الأولى كان الفوز فيها من نصيب البكتيريا، فلم يشفع لنا حجمنا الضخم نسبة للبكتيريا بأي شيء، حيث كانت تتسبّب في وفاة العديد من البشر، فالأطفال المصابون بالتهاب السحايا Bacterial Meningitis كانوا يموتون بنسبة 90% والباقون يعيشون بتشوهات، وكان الشباب لا يُكمل سن الثلاثين حتى يُقتل بفعل البكتيريا، بل إنّ البكتيريا كانت تضاعف أعدادها بالتكاثر داخل هذا الإنسان المسكين فيكون مكسبها مضاعف.
بالطبع، كما يرى هيجل وماركس في نظرياتهم عن الجدل (الديالكتيك)، أنّه ما من شيء يُطرح بقوة، إلا ويُولد معه نَقيضُه، وتتصارع النَّقائض حتى نصل إلى فكرةٍ جديدة. كذلك كان الأمر في هذه الحروب، حيث إنّ البشريين لم يستسلموا، فقاموا بواحدٍ من أعظم الابتكارات في القرن العشرين، باكتشاف المضادات الحيوية وأولها كان البنسيلين على يد العالم ألكسندر فليمنج، مما أدى بالبشرية للانتصار في الحرب البيولوجية الثانية ضد هذه البكتيريا.
أما في هذه العصور الحديثة، لم تعد البكتيريا كما كانت من قبل، فقد سَبَّب تعرُّضِها لهذه الكيماويات حدوث طفراتٍ في محتواها الجيني، أدَّت لظهور صفات جديدة مُقاوِمَةٍ لهذه الأسلحة التي استخدمها بنو البشر، فتنجو أعداد أكبر من هذه البكتيريا وتُسَبِّب الأمراض للبشر، ولك أن تعرف أن أحد چينيرالات هذه البكتيريا يُسمى Staphylococcus Aureus قد استطاع أفراد كتيبته تطوير مقاومته لمعظم المضادات الحيوية المعروفة بما فيها Methicillin & Vancomycin، وقد سُجِّلَت أول حالة وفاةٍ لسيدة في شهر سبتمبر الماضي من الوفاة بهذه البكتيريا التي كانت مُقاوِمَة لكل أنواع المضادات الحيوية المعروفة.
هل سيعجز الدماغ البشري متطور الذكاء عن الرَّد على مثل هذه التداعيات من كائنات متناهية الصغر؟ كلا، إن المسئولين يخبروننا أننا بصَدَدِ حربٍ بيولوجيةٍ ثالثةٍ قريبًا، تُسْتَبعَدُ فيها الأسلحة التقليدية (المضادات الحيوية) بحيث نَعْقِدُ اتفاقية مع الغريم التقليدي للبكتيريا والذي سيصبح حليفنا المستقبلي، إنّها فيروسات البكتيريا “البكتريوفاچ” Bacteriophage تلك الكائنات هي ڤيروسات تقوم بمهاجمة البكتيريا مُسَبِّبَة قتلها وفي هذه الحالة نُسمِّيها القاتلة Lytic Phages أو تكتفي بدَمج شفرتها الوراثية مع شفرة البكتيريا وتُدعى Lysogenic Phages، أضف إلى ذلك قابليتها على التكاثر داخل الخلية البكتيرية لأنّها كائنات غير حية وليست مواد كيميائية كالمضادات الحيوية مما يمنحها تميز إضافيّ.
إنّها مُتَخصِّصة للغاية وليست كالمضادات الحيوية التي لا تُفَرِّقُ بين العدو والصديق وتقوم بقتل البكتيريا النافعة Normal Flora، أما البكتريوفاچ، فإن لكل نوع فيه تَخَصُّصٍ لنوعٍ معين من البكتيريا مما يحافظ على البكتيريا النافعة دون ضرر، وبدون أي أعراضٍ جانبية على خلايا الإنسان تقريبًا، وبدون الحاجة إلى تناول جرعات مُتعددة منها لِتَمَكُّنِها من التكاثر بنفسها، وهذا يبشر بتقنية واعدة لمُحاربة عدونا المشترك. وكما أن هناك مميزات، فلا يخلو شيء من العيوب، فإن هذا التخصص بقدر ما هو مُفيد، قد يؤدي إلى إعاقة إيجاد نوع مُحَدَّد لكل بكتيريا ، وإجبارنا على إجراء التحاليل اللازمة لمعرفة نوع البكتيريا المحدد وبالتالي إعطاء البكتريوفاچ المناسب، وبعض العدوى لا نملك فيها رفاهية الوقت لفعل ذلك، كما أننا يجب أن نستخدم البكتريوفاچ الذي يسبب قتل البكتيريا Lytic Phage وليس غيره الذي لا يسبب لها ضرر آني، وبالتالي فإن علاج العدوى المُخْتَلَطَة Mixed Infection سيكون بالأمر الصَّعب.
يُستخدم البكتريوفاچ الآن في علاج الأمراض التي لا تُعالج بالمُضادات الحيوية كالتَّقرُّحات التي تنتج من بكتيريا E-Coli، Pseudomonas Aeruginosa، Staphylococcus Aureus، كما أن حَقْنَها في الغشاء البريتوني للفئران قد سبَّب تقلُّص العدوى لديهم، وأيضا أخذها بالتَّناوُل بالفم قد قلَّل من حدوث الاسهال بسبب بكتيريا E-coli، ويستخدم أيضًا في تشخيص العدوى البكتيرية المختلفة. بالأخير، فإن البكتريوفاچ يدخل الآن الأسواق كبديل فعَّال للمضادات الحيوية، ومازالت الأبحاث قائمة عليه للوصول لأفضل سبيل لاستخدامه في مقاومة العدوى البكتيرية، فهل سينتصر بنو البشر في هذه الحرب البيولوچية الثالثة أم سيكون هناك رأي آخر للبكتيريا؟
إعداد: محمد إيهاب
صفحة الفيسبوك | الانستجرام | تويتر | تيليجرام | جوجل نيوز